التحكيم في عقد التوزيع غير الحصري في النظام السعودي
لم يعد التحكيم في نظر كثير من المتخصصين طريقاً بديلاً لفض المنازعات، بل أصبح وسيلة أساسية في كثير من العقود صغيرة كانت أم كبيرة، وبالنظر لهذه العقود ومثيلاتها فإنه غالباً ما يُصبغ عليها وجود الطرف الأجنبي، وهو ما دعا وزارة التجارة والاستثمار بإدراج “شرط التحكيم النموذجي” في ثلاث من عقودها الاسترشادية ،عقد الوكالة التجارية، عقد التوزيع التجاري، وعقد الامتيازات التجارية، ومن خلال السطور القادمة سنفرد لإجراءات التحكيم وتطبيقه على عقد التوزيع الغير حصري بإيجاز من الشرح والتفصيل في ضوء العناصر التالية:
(أولاً): مفهوم عقد التوزيع الغير حصري وخصائصه
تكمن أهمية العقود في أنها الطريقة القانونية التي تضمن حفظ الحقوق بين المتعاقدين، من خلال توثيقها بالورق، وهذا التوثيق لا يتنافى مع الثقة، بل إنه ضمانة عند نشوب الخلاف بين الطرفين، لكي يحكم بينهم من الناحية القانونية حال التقدم للقضاء، حيث يتم العودة إلى أحكام العقد وشروطه بما يناسب الشرع والنظام السعودي بالطبع، ولما كان عقد التوزيع هو عقد من العقود كوسيلة عقدية حديثة موضوعها توزيع المنتجات والخدمات، بموجبها ومن خلالها يعطي المنتج أو الُمصنع الذي هو أحد طرفي العقد الطرف الآخر وهو الموزع حق أولوية في توزيع منتجات وخدمات هذا المنتج بشكل غير حصري ومن ثم تسويقها وبيعها إلى الغير طيلة مدة العقد، وذلك لقاء مقابل نقدي يلتزم الموزع بدفعه إلى المنتج، ويتميز عقد التوزيع عن غيره من العقود الخصائص والمميزات التالية:
1- عقد رضائي: بمعنى أن المشرع لم يشترط فيه أن يكون مكتوباً، ومن ثم يجوز إثباته بكافة طرق الإثبات.
2- عقد محدد المدة: أي أنه من العقود الزمنية التي تتراخى فيه آثار تنفيذه إلى فترة زمنية معينة، هي مدة نفاذ العقد.
3- عقد غير مسمى: والعقود غير المسماة بوجه عام هي تلك العقود التي لم ينظمها المشرع تنظيما خاصاً لقلة شيوعها بين الناس، ولذلك تخضع للقواعد العامة في نظرية الالتزامات، ولذلك نجد أن الفقه أخذ على عاتقه إعطاء الوصف القانوني له وبيان آثاره وأساليب انقضائه.
4- عقد يقوم على الاعتبار الشخصي: أي أن شخصية الموزع هي محل اعتبار في نظر المنتج، إذ لا يخاطر هذا الأخير في مسألة منح الإذن في توزيع منتجاته مع أي شخص آخر، وإنما يقوم بانتقاء الأشخاص الذين يعقد معهم العقود واضعا في اعتباره ما يمتلكونه من سمعة حسنة، لاسيما وأن ميدان عمل عقد التوزيع في أغلب الأحيان هو ميدان التجارة، وليس يخفى على أحد أن التجارة تقوم على الثقة والسمعة الحسنة.
عقد ملزم للجانبين: وذلك لكونه عقدا تبادلياً، فكل من طرفيه دائن للثاني ومدين له في ذات الوقت، وعلى هذا الأساس، فإن عقد التوزيع من العقود الملزمة للجانبين التي تنشئ التزامات متبادلة بين المنتج والموزع.
(ثانياً): التعريف بالتحكيم وأهميته في عقود التوزيع الغير حصري
اختلفت تعاريف الفقه للتحكيم وتباينت، فهناك من عرفه بأنه: الطريقة التي يختارها الأطراف لفض المنازعات التي تنشأ عن العقد والتي يتم البت فيها أمام شخص أو أكثر يطلق عليه أسم المحكم أو المحكمين دون اللجوء إلى القضاء،[1]وعرف أيضا بأنه: نظام لتسوية المنازعات عن طريق أفراد طبيعيين يختارهم الخصوم مباشرة أو عن طريق وسيلة أخرى يرتضونها أو تمكين أطراف النزاع بإقصاء منازعاتهم من الخضوع لقضاء المحاكم المخول لها طبقاً للقانون لكي تحل عن طريق أشخاص طبيعيين يختارونهم،[2] وذهب رأي أخر في الفقه بتعريفه على أنه: اتفاق الأطراف على طرح خلافاتهم على أشخاص طبيعيين يختارونهم.
– أما بالنسبة للنظام السعودي فلم يشر نظام التحكيم السعودي الرقيم 156 بتاريخ 17 / 5 / 1433 إلى تعريف التحكيم ولكنه أجاز الاتفاق على التحكيم في نزاع معين قائم، كما أجاز الاتفاق مسبقا على التحكيم في أي نزاع يقوم نتيجة لتنفيذ عقد معين، حيث نصت المادة (الأولى) فقرة (1) على أن: (اتفاق التحكيم هو: اتفاق بين طرفين أو أكثر على أن يحيلا إلى التحكيم جميع أو بعض المنازعات المحددة التي نشأت أو قد تنشأ بينهما في شأن علاقة نظامية محددة، تعاقدية كانت أم غير تعاقدية، سواءً أكان اتفاق التحكيم في صورة شرط تحكيم وارد في عقد، أم في صورة مشارطة تحكيم مستقلة)، كما أن قانون الاستثمار السعودي أيضا لم يشر إلى تعريف التحكيم، وهو ما انتهجته الكثير من التشريعات المقارنة، ولكن قانون الأونسيترال النموذجي للتحكيم التجاري الدولي لسنة ١٩٨٥ مع التعديلات التي اعتمدت في سنة ٢٠٠٦ قد خالف ذلك، وأشار إلى تعريف التحكيم في نص المادة (٢/أ) منه على أنه: (التحكيم يعني، أي تحكيم ، سواء تولته مؤسسة تحكيم دائمة أم لا)، وترتيبا على ما سبق فيمكننا القول أن المقصود بالتحكيم في عقد التوزيع غير الحصري هو اتفاق أطراف عقد التوزيع الغير حصري على اللجوء الى التحكيم لحسم النزاعات التي قد تنشأ بينهم جراء تنفيذ هذا العقد.
– وتجدر الإشارة إلى أن التحكيم التجاري، يمكن أن يندرج تحت أحد مسميات ثلاثة هي:
أ). التحكيم عن طريق القانون: وهو الاتفاق الذي أبرم من قبل كلا من الطرفين في عقد التوزيع الغير حصري، سواء كان شرطاً ضمن شروط عقد الاستثمار أو عقداً منفصلاً يتضمن عرض المنازعات للتحكيم وفقاً للقواعد الإجرائية والموضوعية لقانون معين.
ب). التحكيم المؤسسي: هو نوع من التحكيم تديره هيئة أو منظمة دولية أو إقليمية أو وطنية وتحكمه الاتفاقات المعدة لهذا الغرض وبقواعد وإجراءات محددة تم وضعها مسبقًا من قبل المحكمين.
ج). التحكيم الحر: هي تلك الصورة من التحكيم التي يختار فيها أطراف المنازعة المحكمين ونظام عمل التحكيم في كل حالة على حدى، ودون التقيد بنظام دائم ويجري في حالات فردية.[3]
بعد توضيح تعريف التحكيم، يمكن تحديد أهمية التحكيم على النحو التالي: بأنها تمثل الضمانات الإجرائية لحل منازعات عقود التوزيع الغير حصرية والأساليب الاستثنائية التي يمكن لأطراف عقود الاستثمار الاعتماد عليها اتفاقياً بشروط عقد الاستثمار قبل نشوء النزاع، أو اتفاق التحكيم المبرم قبل أو بعد نشوء النزاع بحكم ملزم ومنهي للخصومة بشكل فعال وسريع يتحقق الأهداف الاستثمارية المرجوة.
(ثالثاً): صور التحكيم في عقود التوزيع الغير حصري
حتى يتسنى لأطراف اتفاق عقد التوزيع الغير حصري إلى العمل بقواعد التحكيم وضوابطه التنظيمية، يجب بداية أن يتم الاتفاق عليه لأنه ينقل تسوية منازعات الاستثمار من أيدي القضاة العاديين إلى أشخاص آخرين يطلق عليهم المحكمون، ومن ثم يمكن الإشارة إلى اتفاق التحكيم من خلال الإقرار بها في شروط اتفاقية التوزيع أو في اتفاقية منفصلة تتعلق باتفاقية التوزيع، ومن ثم فإن اتفاقيات التحكيم تأتي في شكلين، وهما شروط التحكيم واتفاقيات التحكيم.
– فبالنسبة لشرط التحكيم: فإن النص الوارد في شروط عقد التوزيع هو الذي يقرر اللجوء إلى التحكيم كطريقة لحل النزاعات المستقبلية بين الأطراف المتعاقدة فيما يتعلق بالعقد وتنفيذه.[4]
– أما بالنسبة لمشارطة التحكيم: فهو أي اتفاق بين أطراف العلاقة الاستثمارية في عقد مستقل عن عقد التوزيع، يتقرر بموجبه عرض المنازعات التي نشأت بينهم بالفعل على التحكيم لحلها.[5]
رابعا: فعالية التحكيم كضمانة إجرائية للمستثمر في عقد التوزيع الغير حصري
غالباً ما تعتمد الكثير من البلدان المستهدفة للاستثمار على التحكيم كضمان إجرائي لتشجيع الاستثمار في أراضيها، وقد أدى ذلك إلى قيام العديد من البلدان بتضمين أحكام صريحة في قوانين تشجيع الاستثمار الخاصة بها تنص على قبول التحكيم كطريقة إجرائية لحل منازعات الاستثمار، فضلاً على الحرص الدائم من قبل المستثمرين في إدراج شرط التحكيم بعقود الاستثمار المبرمة مع الدولة الجاذبة للاستثمار لما يحققه من فعالية مهمة في حسم منازعات الاستثمار خاصة في عقد التوزيع الغير حصري، وقد نص نظام الاستثمار الأجنبي في المملكة العربية السعودية بالمادة (الثالثة عشر) منه على أن: (مع عدم الإخلال بالاتفاقيات التي تكون المملكة العربية السعودية طرفاً فيها:
- تتم تسوية الخلافات التي تنشأ بين الحكومة والمستثمر الأجنبي فيما له علاقة باستثماراته المرخص لها بموجب هذا النظام ودياً قدر الإمكان، فإذا تعذر ذلك يحل الخلاف حسب الأنظمة.
- تتم تسوية الخلافات التي تنشأ بين المستثمر الأجنبي وشركائه السعوديين فيما له علاقة باستثماراته المرخصة بموجب هذا النظام ودياً قدر الإمكان، فإذا تعذر ذلك يحل الخلاف حسب الأنظمة).
– ونزولاً على تطبيق هذا النص، فقد نصت المادة (الثانية) من نظام التحكيم السعودي على أنه: (مع عدم الإخلال بأحكام الشريعة الإسلامية وأحكام الاتفاقيات الدولية التي تكون المملكة طرفاً فيها، تسري أحكام هذا النظام على كل تحكيم، أياً كانت طبيعة العلاقة النظامية التي يدور حولها النزاع، إذا جرى هذا التحكيم في المملكة، أو كان تحكيماً تجارياً دولياً يجرى في الخارج، واتفق طرفاه على إخضاعه لأحكام هذا النظام، ولا تسري أحكام هذا النظام على المنازعات المتعلقة بالأحوال الشخصية، والمسائل التي لا يجوز فيها الصلح).
كما نصت المادة (الثالثة) من ذات النظام على أن: (يكون التحكيم دولياً في حكم هذا النظام إذا كان موضوعه نزاعاً يتعلق بالتجارة الدولية، وذلك في الأحوال الآتية:
1 – إذا كان المركز الرئيس لأعمال كل من طرفي التحكيم يقع في أكثر من دولة وقت إبرام اتفاق التحكيم، فإذا كان لأحد الطرفين عدة مراكز للأعمال فالعبرة بالمركز الأكثر ارتباطاً بموضوع النزاع، وإذا لم يكن لأحد طرفي التحكيم أو كليهما مركز أعمال محدد فالعبرة بمحل إقامته المعتاد.
2 – إذا كان المركز الرئيس لأعمال كل من طرفي التحكيم يقع في الدولة نفسها وقت إبرام اتفاق التحكيم، وكان أحد الأماكن الآتي بيانها واقعاً خارج هذه الدولة:
أ – مكان إجراء التحكيم كما عيَّنه اتفاق التحكيم، أو أشار إلى كيفية تعيينه.
ب – مكان تنفيذ جانب جوهري من الالتزامات الناشئة من العلاقة التجارية بين الطرفين.
ج – المكان الأكثر ارتباطاً بموضوع النزاع.
3 – إذا اتفق طرفا التحكيم على اللجوء إلى منظمة، أو هيئة تحكيم دائمة، أو مركز للتحكيم يوجد مقره خارج المملكة.
4 – إذا كان موضوع النزاع الذي يشمله اتفاق التحكيم يرتبط بأكثر من دولة).
فضلاً عن ما نصت عليه المادة (الخامسة) من ذات النظام على أنه: (إذا اتفق طرفا التحكيم على إخضاع العلاقة بينهما لأحكام أي وثيقة (عقد نموذجي، أو اتفاقية دولية أو غيرهما)، وجب العمل بأحكام هذه الوثيقة بما تشمله من أحكام خاصة بالتحكيم، وذلك بما لا يخالف أحكام الشريعة الإسلامية)
– ويستلزم لتحقيق فعالية التحكيم كضمانة إجرائية لحسم منازعات عقد التوزيع تبنى العديد من المبادئ القانونية والتي تتمثل باستقلال شرط التحكيم عن عقد التوزيع، وأيضا اختصاص المحكمين بالفصل في النزاع ، فضلاً عن ذلك عدم قبول دفع الدولة والأشخاص المعنوية التابعة لها بعدم أهليتها للتحكيم، وذلك بالتوضيح التالي:
أ- استقلال شرط التحكيم عن عقد التوزيع: ويقصد بذلك استقلال الاتفاق المبرم على شكل شرط التحكيم والمدرج ضمن بنود عقد التوزيع عن هذا الأخير ومن المؤثرات التي تؤثر بصحته،[6] مما مفاده أن بطلان عقد التوزيع لا يؤثر على شرط التحكيم المدرج ضمن بنود هذا العقد، وهذا ما يؤدي بدوره إلى تحقيق الفعالية المطلوبة للتحكيم كضمانة للمستثمرين في حسم منازعاتهم الاستثمارية، وبالنسبة للأساس القانوني لاستقلال شرط التحكيم عن عقد الاستثمار، فإن المنظم السعودي في نظام التحكيم النافذ لم يتضمن ضمن نصوصه على مبدأ استقلال شرط التحكيم عن العقد الأصلي، في حين قيام القانون النموذجي للتحكيم التجاري الدولي لسنة ١٩٨٥ إلى النص على استقلال شرط التحكيم عن العقد في نص المادة (١٦ ف١) والتي أشارت إلى أن: (….ينظر إلى شرط التحكيم الذي يشكل جزءاً من العقد كما لو كان اتفاقاً مستقلاً عن شروط العقد الأخرى، وأي قرار يصدر من هيئة التحكيم ببطلان العقد لا يترتب عليه بحكم القانون بطلان شرط التحكيم).
ب- انفراد المحكمين بالفصل في الاختصاص: حيث يتضمن اتفاق التحكيم التزام أطراف عقد الاستثمار بتقديم محكم أو أكثر يتم اختياره للفصل في المنازعات الناشئة بين أطراف عقد الاستثمار، وليس إلى محكمة صاحبة اختصاص أصيل للنظر في النزاع كأثر إيجابي مترتب على اتفاق التحكيم،[7]ويقصد بهذا المبدأ، هو أن يختص المحكم بتحديد اختصاصه ونظر المنازعات المتعلقة باختصاصه وتحديد نطاق سلطته وتقرير فيما إذا كان النزاع صحيحاً أم لا،[8] مما يرتب نتيجة مؤداها أنه إذا اعترض أحد طرفي النزاع على أن هيئة التحكيم ليس لها اختصاص الفصل في النزاع أو أنه لا يوجد اتفاق يشير إلى التحكيم، فإن المحكمين أنفسهم هم من يقررون، ولا شك أن هذا الأمر يسلط الضوء على فعالية التحكيم كضمان لحل نزاعات الاستثمار بسرعة، بعيدًا عن المماطلة والوقت الضائع، حتى لو لم تكن المحكمة بحاجة إلى اتخاذ قرار بشأن مسألة اختصاص المحكم.
– أما عن الأساس القانوني لمبدأ اختصاص المحكم بالفصل في مسألة اختصاصه فلم يشر نظام التحكيم السعودي النافذ ضمن نصوصه إلى مبدأ الاختصاص بالفصل، ولكن بالنسبة للاتفاقيات الدولية المختصة بالتحكيم فقد أقرت بعض هذه الاتفاقيات مبدأ اختصاص المحكم بالفصل في اختصاصه، لذلك نجد أن الاتفاقية الأوربية للتحكيم التجاري الدولي لسنة ١٩٦١ قد أشارت إلى مبدأ الاختصاص بالاختصاص في نص المادة (٥/ ف٣) من الاتفاقية، حيث نصت على أنه: (مع التحفظ لجهة المراقبة القضائية اللاحقة المحددة بموجب قانون القاضي فأنه يقضي على المحكم المطعون بصلاحيته إلا يتخلى عن القضية ، وهو له سلطة تقرير اختصاصه وتقرير صحة أتفاق التحكيم أو صحة العقد الذي يكون شرط التحكيم جزءاً منه).
ج- عدم قبول دفع الدولة وأشخصاها الاعتبارية بعدم أهليتها للتحكيم: وهذا يعني أن الدولة والكيانات القانونية المرتبطة بها لا يمكنها الادعاء بأنها غير مؤهلة للدخول في اتفاقيات تحكيم حتى يتم رفض أو إنهاء اتفاقيات التحكيم التي تم إقرارها طوعًا مسبقاً مع المستثمرين،[9]ويذهب جانب من الفقه أن مبدأ عدم قبول دفع الدولة أو كيان قانوني عام التابعة بعدم أهليتها للتحكيم بعد موافقتها عليه مسبقاً يعتبر من المبادئ الراسخة في التحكيم الدولي،[10] وقد أجازت أغلب التشريعات للدولة والأشخاص المعنوية التابعة لها بأن تكون طرفا في أتفاق التحكيم، إلا أن المنظم السعودي في نظام التحكيم النافذ قد أشار في نص المادة (10/2) منه على أنه: (لا يجوز للجهات الحكومية الاتفاق على التحكيم إلا بعد موافقة رئيس مجلس الوزراء، ما لم يرد نص نظامي خاص يجيز ذلك).
مما يتضح من خلال هذا النص أن المشرع السعودي لم يجيز في الأصل للدولة أو هيئاتها الحكومية العامة اللجوء إلى التحكيم، ولكنها استثنت من ذلك حالة الموافقة من رئيس مجلس الوزراء، وأيضا في حالة تعديل الحكم المتقدم بقرار مجلس الوزراء.
بشكل عام، يمكن القول أن رفض الادعاء بأن الدول وكياناتها القانونية العامة غير مؤهلة للتحكيم يجعل التحكيم فعالًا للغاية في حل منازعات الاستثمار، وهو مبدأ جاء كضمان هام وفعال للمستثمر الذي يتعاقد مع دولة أو كيان يجذب الاستثمار.
(خامساً): شروط نطاق تطبيق التحكيم الإلزامية والاتفاقية
لم يشترط المنظم أن تفرغ كتابة الاتفاق على التحكيم في شكل معين، بل ترك الحرية لأطراف التحكيم في اختيار الشكل المناسب لهما، وهو ما قضت به المادة (9/3) من نظام التحكيم بأنه: ( يكون اتفاق التحكيم مكتوباً إذا تضمنه محرر صادر من طرفي التحكيم، أو إذا تضمنه ما تبادلاه من مراسلات موثقة، أو برقيات، أو غيرها من وسائل الاتصال الإلكترونية، أو المكتوبة، وتعد الإشارة في عقد ما، أو الإحالة فيه إلى مستند يشتمل على شرط للتحكيم، بمثابة اتفاق تحكيم، كما يُعدّ في حكم اتفاق التحكيم المكتوب كل إحالة في العقد إلى أحكام عقد نموذجي، أو اتفاقية دولية، أو أي وثيقة أخرى تتضمن شرط تحكيم إذا كانت الإحالة واضحة في اعتبار هذا الشرط جزءاً من العقد)، وهذا الأمر ينطبق أيضا على اتفاق التحكيم المترتب على النزاعات التي تنشب بسبب عقد التوزيع غير الحصري، وقد أحسن المنُظّم في اعتبار تلك المحررات والإشارات والوثائق من قبيل اتفاقيات التحكيم، لاسيما عندما يشير إلى الاتصالات الإلكترونية السائدة حالياً، كما يشترط أن يكون التحكيم معيناً تعيينا نافيا للجهالة، أي أن يكون في شكل علاقة قانونية محددة،[11] وتهدف القوانين المختلفة الالتزام بتحديد موضوع النزاع، مما يترتب عليه عدم حرمان الأطراف من حقهم في اللجوء إلى العدالة القضائية صاحبة الاختصاص الأصيل إلا في النزاعات المحددة بدقة في العقد المحرر بينهما، ومن ثم يلاحظ أن اتفاق التحكيم يجب أن يكون مكتوبا، ويجب أن يتضمن بين طياته تحديدا للنزاع الذي سيكون محلا لنظر هيئة التحكيم لغرض الفصل فيه، ولم يلزم النظام الأطراف بتضمين أي بيانات أخرى غير تحديد موضوع النزاع، وأفسح لهم المجال في تضمين اتفاق التحكيم بعض البيانات والمسائل الأخرى غير الإلزامية وأهمها ما يلي:
(أولاً)- حرية اختيار القانون الواجب التطبيق: يبدأ اتفاق التحكيم بالإرادة الخالصة للأطراف المتعاقدة بتوضيح القواعد التي تحكمه، حيث أن العقد هو قانون الأطراف المتعاقدة، وبالتالي يجوز للمتقاضين اختيار القانون الخاص الذي ينطبق على المنازعات بينهم فيما يخص عقد التوزيع الغير حصري المبرم بينهم، بما لا يتعارض مع النظام العام والأخلاق، ويفرض المنظم السعودي على هيئة التحكيم أن تطبق القواعد التي اتفق الأطراف على تطبيقها على موضوع النزاع، وفي حالة الاتفاق على تطبيق قانون دولة أخرى، فيجب تطبيق القواعد الموضوعية لذلك القانون دون القواعد الخاصة بتنازع القوانين، مع ملاحظة أن المنظم السعودي سمح للأطراف أن يتفقوا على خلاف ذلك بما يتفق مع مصالحهم، وقد لا يتفقا الأطراف على القانون الموضوعي الواجب التطبيق على الخصومة، وهنا يجيز المنُظّم لهيئة التحكيم أن تطبق القانون الذي ترى أنه أكثر صلة بموضوع الخصومة، وفي جميع الأحوال، يتطلب القانون من هيئة التحكيم النظر في شروط العقد ومراعاة الأعراف والممارسات السائدة في نوع النشاط المتنازع عليه، وفي ذلك نصت المادة (38) من نظام التحكيم على أن: (1- مع مراعاة عدم مخالفة أحكام الشريعة الإسلامية والنظام العام بالمملكة، على هيئة التحكيم أثناء نظر النزاع الآتي:
أ – تطبيق القواعد التي يتفق عليها طرفا التحكيم على موضوع النزاع، وإذا اتفقا على تطبيق نظام دولة معينة اتبعت القواعد الموضوعية فيه دون القواعد الخاصة بتنازع القوانين، ما لم يتفق على غير ذلك.
ب – إذا لم يتفق طرفا التحكيم على القواعد النظامية واجبة التطبيق على موضوع النزاع طبقت هيئة التحكيم القواعد الموضوعية في النظام الذي ترى أنه الأكثر اتصالاً بموضوع النزاع.
ج – يجب أن تراعي هيئة التحكيم عند الفصل في موضوع النزاع شروط العقد محل النزاع، وتأخذ في الاعتبار الأعراف الجارية في نوع المعاملة، والعادات المتبعة، وما جرى عليه التعامل بين الطرفين.
2- إذا اتفق طرفا التحكيم صراحة على تفويض هيئة التحكيم بالصلح جاز لها أن تحكم به وفق مقتضى قواعد العدالة والإنصاف).
، ويلاحظ أنه في حالة مخالفة هيئة التحكيم لإرادة الأطراف فيما اتفقوا عليه من تطبيق قانون معين يترتب عليه جزاء البطلان لحكم التحكيم نفسه، تطبيقاً لنص المادة (50/1/د)، وفي المقابل يستطيع الأطراف تضمين اتفاق التحكيم الأحكام الخاصة بإجراءات التحكيم، وتعيين هيئة ومكان التحكيم.
(ثانياً)- تقدير أتعاب المحكمين وطريقة ردهم: يمنح المنظم أطراف النزاع الحرية الكاملة في اختيار طريقة وإجراءات رد المحكم وإدراجها في اتفاقية التحكيم، إلا أن الأطراف قد تغفل عن ذلك عمداً أو سهواً، وتظل اتفاقية التحكيم قائمة وصحيحة، وعندما يغفل الأطراف عن تعيين تلك الإجراءات، فإن النظام يفرض على الطرف الذي يرغب في الرد أن يقدم طلبه كتابة إلى هيئة التحكيم خلال خمسة أيام من تاريخ علمه بتشكيل هيئة التحكيم، وعند عدم تنحي المحكم المطلوب رده، أو لم يوافق الطرف الآخر على طلب الرد خلال خمسة أيام من تقديمه، فيجب على هيئة التحكيم أن تبت في الطلب خلال 15 يوما من تاريخ تسلمه، وفي حالة رفض طلب الرد، يجوز لمقدمه أن يقدمه للمحكمة المختصًة خلال ثلاثين يوماً ويكون حكم المحكمة محصناً ضد الطعن، وهو ما نصت عليه المادة (17) من نظام التحكيم بأنه: (1- إذا لم يكن هناك اتفاق بين طرفي التحكيم حول إجراءات ردّ المحكم، يقدم طلب الرد كتابةً إلى هيئة التحكيم مبيناً فيه أسباب الردّ خلال خمسة أيام من تاريخ علم طالب الردّ بتشكيل الهيئة، أو بالظروف المسوغة للردّ، فإذا لم يتنح المحكم المطلوب ردّه، أو لم يوافق الطرف الآخر على طلب الردّ خلال خمسة أيام من تاريخ تقديمه، فعلى هيئة التحكيم أن تبت فيه خلال خمسة عشر يوماً من تاريخ تسلمه، ولطالب الرد في حالة رفض طلبه التقدم به إلى المحكمة المختصة خلال (ثلاثين) يوماً، ويكون حكمها في ذلك غير قابل للطعن بأي طريق من طرق الطعن.
2- لا يُقبل طلب الردّ ممن سبق له تقديم طلب بردّ المحكم نفسه في التحكيم نفسه، للأسباب ذاتها.
3- يترتب على تقديم طلب الردّ أمام هيئة التحكيم وقف إجراءات التحكيم، ولا يترتب على الطعن في حكم هيئة التحكيم الصادر برفض طلب الرد وقف إجراءات التحكيم.
4- إذا حُكم بردّ المحكم سواء من هيئة التحكيم، أم من المحكمة المختصة عند نظر الطعن، ترتب على ذلك اعتبار ما يكون قد تم من إجراءات التحكيم بما في ذلك حكم التحكيم كأن لم يكن).
– ويجب التنبيه على أنه، في أي وقت يثير فيه أحد الطرفين شكوكاً جوهرية حول عدم نزاهة المحكم، فإن حق رد المحكم مكفول للأطراف، ويجب الإفصاح عن الظروف التي تتطلب إثارة مثل هذه الشكوك، وتجدر الإشارة إلى أن المسؤولية في الإفصاح تقع على عاتق المحكم،[12] ،ويفرض المنظم على الأطراف عند اختيار المحكمين إبرام عقد مستقل يتضمن أتعابهم، على أن يودع لدى الجهة الحكومية المختصة، وهو ما تصدت له المادة (42/2) من نظام التحكيم بالنص على أنه: (يجب أن يشتمل حكم التحكيم على تاريخ النطق به ومكان إصداره، وأسماء الخصوم، وعناوينهم، وأسماء المحكمين، وعناوينهم، وجنسياتهم، وصفاتهم، وملخص اتفاق التحكيم، وملخص لأقوال وطلبات طرفي التحكيم، ومرافعتهم، ومستنداتهم، وملخص تقرير الخبرة ـ إن وجد ـ ومنطوق الحكم، وتحديد أتعاب المحكمين، ونفقات التحكيم، وكيفية توزيعها بين الطرفين. دون إخلال بما قضت به المادة (الرابعة والعشرون) من هذا النظام).
(ثالثاً)- لغة التحكيم: يقضي نظام التحكيم السعودي الجديد في مادته رقم (29) بالنص على أن:(1- يجرى التحكيم باللغة العربية ما لم تقرر هيئة التحكيم أو يتفق طرفا التحكيم على لغة أو لغات أخرى، ويسري حكم الاتفاق أو القرار على لغة البيانات والمذكرات المكتوبة، والمرافعات الشفهية، وكذلك على كل قرار تتخذه هيئة التحكيم، أو رسالة توجهها، أو حكم تصدره، ما لم ينص اتفاق الطرفين أو قرار هيئة التحكيم على غير ذلك.
2- لهيئة التحكيم أن تقرر أن يرافق كل الوثائق المكتوبة أو بعضها التي تقدم في الدعوى ترجمة إلى اللغة أو اللغات المستعملة في التحكيم. وفي حالة تعدد هذه اللغات يجوز للهيئة قصر الترجمة على بعضها)، وفي حالة سكوت الأطراف عن تحديد لغة التحكيم، نجد أن نظام التحكيم السعودي في المادة السابقة قد عالج هذه المسألة، بحيث يقيم قرينة بأن لغة التحكيم هي اللغة العربية ما لم يتفق الأطراف على غير ذلك، وفي الوقت نفسه يعطى هذا الحق أيضاً لهيئة التحكيم لاختيار لغة التحكيم).
(رابعاً)- مدة التحكيم: من العناصر التي يمكن أن يتفق عليها طرفا التحكيم بشأن قواعد التحكيم، هو وضع حد زمني محدد لإنهاء النزاع وصدور قرار تمهيدي، على أن يكون هذا الاتفاق وارد في اتفاقية التحكيم، وهو اتفاق ملزم لهيئة التحكيم، وعند عدم وجود هذا الاتفاق، فإن المنظم السعودي في نظام التحكيم يوجب على هيئة التحكيم إصدار حكمها خلال مدة 12 شهرا من تاريخ بدء إجراءات التحكيم قابلة لتمديد بقرار من هيئة التحكيم لمدة 6 أشهر إضافيًة، وفي حالة تعثر هيئة التحكيم في إصدار حكمها خلال تلك المدد، فإن المنظم يجيز لأي من الخصوم أن يتقدم بطلب للمحكمة يطلب فيه تمديد المدة أو يطلب إنهاء سير التحكيم، وتجدر الإشارة إلى أن المنظم يزيد مدة 30 يوما إلى تلك المدد في حالة تعيين محكم بديل، ويعتبر قرار التحكيم باطًلاً إذا صدر بعد انتهاء المدة المحددة إلا إذا اتفق الأطراف على تمديدها، وهو ما نصت عليه المادة (40) على أن: (1- على هيئة التحكيم إصدار الحكم المنهي للخصومة كلها خلال الميعاد الذي اتفق عليه طرفا التحكيم، فإن لم يكن هناك اتفاق وجب أن يصدر الحكم خلال اثني عشر شهراً من تاريخ بدء إجراءات التحكيم.
2- يجوز لهيئة التحكيم في جميع الأحوال أن تقرر زيادة مدة التحكيم على ألا تتجاوز هذه الزيادة ستة أشهر، ما لم يتفق طرفا التحكيم على مدة تزيد على ذلك.
3- إذا لم يصدر حكم التحكيم خلال الميعاد المشار إليه في الفقرة السابقة، جاز لأي من طرفي التحكيم أن يطلب من المحكمة المختصة أن تصدر أمراً بتحديد مدة إضافية، أو بإنهاء إجراءات التحكيم، ولأي من الطرفين عندئذ رفع دعواه إلى المحكمة المختصة.
4- إذا عين محكم بدلاً من محكم وفقاً لأحكام هذا النظام، امتد الميعاد المحدد للحكم ثلاثين يوماً).
وبشأن انتهاء إجراءات التحكيم، فقد تصدت لها المادة (41) كم النظام السعودي بالنص على أن: (1- تنتهي إجراءات التحكيم بصدور الحكم المنهي للخصومة، أو بصدور قرار من هيئة التحكيم بإنهاء الإجراءات في الأحوال الآتية:
أ – إذا اتفق طرفا التحكيم على إنهاء التحكيم.
ب – إذا ترك المدعي خصومة التحكيم، ما لم تقرر هيئة التحكيم بناءً على طلب المدعى عليه أن له مصلحة جدية في استمرار الإجراءات حتى يحسم النزاع.
ج – إذا رأت هيئة التحكيم لأي سبب آخر عدم جدوى استمرار إجراءات التحكيم أو استحالته.
د – صدور أمر بإنهاء إجراءات التحكيم وفقاً لحكم الفقرة (1) من المادة (الرابعة والثلاثين) من هذا النظام.
2- لا تنتهي إجراءات التحكيم بموت أحد طرفي التحكيم، أو فقد أهليته، ما لم يتفق من له صفة في النزاع مع الطرف الآخر على انتهائه – ولكن يمتد الميعاد المحدد للتحكيم ثلاثين يوماً، ما لم تقرر هيئة التحكيم تمديد المدة مدة مماثلة، أو يتفق طرفا التحكيم على غير ذلك.
3- مع مراعاة أحكام المواد (التاسعة والأربعين) (والخمسين) (والحادية والخمسين) من هذا النظام، تنتهي مهمة هيئة التحكيم بانتهاء إجراءات التحكيم).
كتابة الأستاذ/ محمد جلال جعفر
[1] – د. فوزي محمد سامي، التحكيم التجاري الدولي، دار الثقافة للنشر والتوزيع، عمان، 1992، ص 17.
[2] – د. أبو زيد رضوان، الأسس العامة للتحكيم التجاري، دار الفكر الجامعي، الإسكندرية، 1981، ص 19.
[3] – د. محمود الكيلاني ، الموسوعة التجارية والمصرفية، المجلد الأول، عقود التجارة الدولية في مجال عقد نقل التكنلوجيا، ص ٣٧١ وما بعدها.
[4] – د. سامية راشد، التحكيم في العلاقات الدولية الخاصة، الكتاب الأول، اتفاق التحكيم، دار النهضة العربية، القاهرة، 1984، ص 75.
[5] – د. مراد محمد المواجدة، التحكيم في عقود الدولة ذات الطابع الدولي، دراسة مقارنة، دار الثقافة للنشر والتوزيع، عمان، 2010، ص 40.
[6] – د. حفيظة السيد الحداد، الموجز في النظرية العامة للتحكيم التجاري الدولي، منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت، 2007، ص 119
[7] – د. سراج حسين أبو زيد، التحكيم في عقود البترول، دار النهضة العربية، القاهرة، 2010، ص 93.
[8] – د. إبراهيم احمد إبراهيم، القانون الدولي الخاص، دار النهضة العربية، القاهرة، ط 2، 1997، ص 98 وما بعدها.
[9] – د. سراج حسين أبو زيد، التحكيم في عقود البترول، دار النهضة العربية، القاهرة، 2010، ص 304.
[10] – د. بشار محمد الأسعد، عقود الاستثمار في العلاقات الدولية الخاصة، منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت، ط 1، 2006، ص 405.
[11] – د. سميحة القليوبي، الأسس القانونية للتحكيم التجاري وفقاً لقانون رقم 27 لسنة 1994، دار النهضة العربية، القاهرة ،2013، ص57.
[12] – عمرو موسى الفقي، الجديد في التحكيم في الدول العربية، المكتب الجامعي الحديث، الإسكندرية، 2003، ص 75.